أبعاد مُتغيّرة- حرب السودان وتداعياتها السياسية والاقتصادية والإثنية.

المؤلف: عادل أحمد الباز11.08.2025
أبعاد مُتغيّرة- حرب السودان وتداعياتها السياسية والاقتصادية والإثنية.

شهد السودان في تاريخه المعاصر أطول الحروب الأفريقية، وهي حرب جنوب السودان، والتي استمرت قرابة الخمسة عقود. توقفت هذه الحرب لعقد من الزمن (1973-1983) عقب توقيع اتفاقية أديس أبابا بين حركة أنانيا 2 وحكومة جعفر نميري في عام 1972.

لكن سرعان ما تجددت الحرب في الجنوب في عام 1983، واستمرت لأكثر من ثلاثة عقود، وانتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في عام 2005 بضاحية نيفاشا في جمهورية كينيا. إلا أن الحرب التي اندلعت في شهر أبريل من العام الماضي، تتسم بطبيعة مغايرة وشهدت تحولات غير مسبوقة في تاريخ الحروب في السودان، مما سيؤدي إلى تبعات متباينة على مختلف الأصعدة، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.

في الحروب السابقة، كان الجيش السوداني يخوض معاركه ضد جماعات وحركات متمردة، سواء في جنوب السودان أو غربه. هذه الحركات المتمردة كانت تعتمد دائمًا في تسليحها وتمويلها للحرب على مصادر خارجية. على سبيل المثال، اعتمدت حركات دارفور على دعم ليبيا في عهد القذافي وما بعده، وحتى اندلاع الحرب في أبريل من العام الماضي.

إن التغيير البالغ الأهمية، والذي سيكون له تأثير عميق في المستقبل القريب والبعيد، يتمثل في الأبعاد الإثنية والجهوية لهذه الحرب. فالصراعات والحروب التي شهدها السودان عبر تاريخه، لم تشهد هذا القدر من الاصطفاف القبلي والإثني كما هو الحال في هذه الحرب.

كما استندت أيضًا إلى دعم الحكومات التشادية المختلفة في صراعها الدائم مع السودان. وبالمثل، اعتمد الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، طوال فترة حربه، على المساندة الغربية بشكل أساسي، وعلى دعم الأنظمة الأفريقية المتعاطفة معه.

لقد شهدت الحرب الحالية عدة متغيرات؛ أولها: أن القوات المتمردة هذه المرة، المتمثلة في قوات الدعم السريع، كانت قوات نظامية تتمتع بوضع دستوري وقانوني منصوص عليه في قانون القوات المسلحة، وقد تم تمويلها وتسليحها من قبل الدولة. وهذا يعني أن الجيشين المتقاتلين حاليًا يخوضان حربهما باستخدام موارد الدولة السودانية.

صحيح أنه بعد اندلاع الحرب، سعى الطرفان للحصول على تمويل وتسليح خارجي، إلا أن قوات الدعم السريع تلقت بعد بدء القتال دعمًا خارجيًا كبيرًا وتمويلًا وأسلحة متنوعة ومتطورة من دول عدة من خارج الإقليم الأفريقي، الأمر الذي سهل عملية نقل المعدات والذخائر. وللمرة الأولى في تاريخ الحروب بالسودان، تقوم الدولة بتمويل متمردين على جيشها النظامي من مواردها الخاصة.

ومن أهم المتغيرات التي شهدتها حرب أبريل، والتي قاربت العام الآن، أنها اندلعت في قلب العاصمة الخرطوم. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ التمردات المتعددة التي شهدها السودان، ثم امتدت نيرانها إلى ثماني ولايات: خمس في الغرب، وثلاث في الشمال: (كردفان والخرطوم والجزيرة).

في الغالب، كانت الحركات المتمردة تبدأ حروبها من مناطق الأطراف البعيدة، ونادرًا ما كانت تلك الحروب تمتد إلى قلب العاصمة الخرطوم. والمرة الوحيدة التي وصلت فيها شرارة حروب الهامش إلى الخرطوم كانت في عام 2008، عندما تمكنت قوات حركة العدل والمساواة من الوصول إلى أم درمان، قادمة من الحدود الغربية للسودان.

في تجربة حرب أبريل الحالية، لم تأت القوات المتمردة إلى الخرطوم غازية، بل كانت جزءًا من المنظومة الأمنية المكلفة بتأمين العاصمة السودانية. ولهذا السبب، استولت على جميع المقار الحكومية الإستراتيجية دون مقاومة منذ الساعات الأولى للحرب. ووجدت القيادة الحكومية، ممثلة في الرئيس البرهان وقيادات الجيش، أن مؤسسات الدولة قد تم الاستيلاء عليها من قبل المكلفين بحراستها (قوات الدعم السريع).

لم يحدث قط أن اقتربت أي قوات متمردة على الدولة على مدى خمسين عامًا من القصر الجمهوري، أو القيادة العامة طيلة سبعين عامًا، وهي عمر الحركات المتمردة في السودان.

إن التغيير بالغ الأهمية، والذي سيكون له تأثير عميق في المستقبل القريب والبعيد، يتمثل في الأبعاد الإثنية والجهوية لهذه الحرب. فالصراعات والحروب التي شهدها السودان عبر تاريخه، لم تشهد هذا القدر من الاصطفاف القبلي والإثني كما هو الحال في هذه الحرب.

سعت قوات الدعم السريع، منذ الأيام الأولى للحرب، إلى إحداث اصطفاف قبلي وجهوي من خلال تعبئة قواعدها الاجتماعية في غرب السودان، وذلك باستخدام عبارات عدائية ضد المواطنين الشماليين، مثل "الجلابة" (التجار الشماليين في غرب السودان)، ثم لاحقًا "الفلول" (أنصار النظام السابق)، وأخيرًا تسمية بعض القبائل في شمال السودان وتصنيفها كأعداء. ونجحت قوات الدعم السريع في استمالة بعض القبائل للاصطفاف معها ضد الجيش السوداني. وعلى الرغم من أن جهودها لم تحقق نجاحًا كاملاً، إلا أنها استطاعت استقطاب بعض المكونات القبلية على أساس إثني وجهوي.

كانت حروب السودان الطويلة تدور بشكل أساسي خارج المدن، وكانت الأرياف السودانية أو مناطق الهامش هي الأكثر تضررًا. ولكن حرب الخامس عشر من أبريل 2023 دارت في أكثر من ولاية ومنطقة، ولذا كان تأثيرها كبيرًا على السكان.

وعلى الرغم من أن المناطق الريفية والولايات البعيدة كانت مسرحًا رئيسيًا لتلك الحروب، وشهدت انتهاكات جسيمة فيها، إلا أن الفظائع التي ارتكبت في الحرب الحالية غير مسبوقة من حيث اتساع نطاقها وتعدد أنواع جرائمها، من قتل ونهب واغتصاب واحتلال. وهذه الجرائم عمت القرى والحضر، ولم يترك التمرد شبرًا في أي منطقة دخلها دون انتهاكات جسيمة، وصلت في بعض المناطق إلى حد الإبادة الجماعية، كما حدث في مدينة نيالا، إحدى أهم مدن غرب السودان، حيث قُتل أكثر من خمسة عشر ألف شخص في يوم واحد، ودفن بعضهم وهم أحياء. وفي ذات المدينة، قُتل واليها، خميس أبكر، في جريمة وحشية ارتكبتها قوات الدعم السريع في حربها الحالية.

كانت جميع الحروب في تاريخ السودان لها تأثيرها الاقتصادي المدمر، وتأثرت بها جميع القطاعات، وظلت الدولة تمول تلك الحروب من ميزانيتها بالعجز وبالديون الخارجية، مما أدى إلى تدهور مستمر في قيمة العملة، وبالتالي تدهور الاقتصاد الكلي.

إن الأثر الاقتصادي للحرب الدائرة حاليًا هو الأكثر تدميرًا وتخريبًا للاقتصاد السوداني، ولا يقارن بما حدث في الحروب السابقة. هذه الحرب دمرت المؤسسات الاقتصادية القائمة بكل أنواعها: (صناعية، زراعية، خدمية)، من خلال النهب والحرق والتدمير المباشر. وتقريبًا، جميع مؤسسات القطاع الاقتصادي، من بنوك وشركات ومصانع تابعة للدولة أو القطاع الخاص أو الاستثمار الأجنبي، تعرضت للدمار الشامل، وهي حالة غير مسبوقة أيضًا، وذلك بسبب اندلاع الحرب في العاصمة، المركز المالي والاقتصادي الذي تتركز فيه جميع المؤسسات الصناعية والخدمية والشركات الكبرى.

صدرت تقارير عديدة حول حجم الخسائر التي سببتها الحرب الحالية، ولكن التصريحات الصادرة عن الفريق إبراهيم جابر، أحد أهم قيادات الجيش في الجانب الاقتصادي، كانت لافتة للنظر، إذ قدر الخسائر الاقتصادية للحرب حتى الآن بمبلغ 150 مليار دولار، وهي تعادل تقريبًا جميع عائدات دخل النفط منذ استخراجه في أواخر تسعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى عائدات الذهب خلال ربع قرن من الزمان. علاوة على ذلك، استهلكت هذه الحرب معظم مدخرات السودانيين في الخارج، وقضت على الكثير من ممتلكاتهم في الداخل.

ومن العناصر الجديدة في هذه الحرب أيضًا، دخول التكنولوجيا بكثافة في أعمالها، بشكل لم تشهده الحروب السابقة. فلأول مرة، تُستخدم أسلحة نوعية لم تُستخدم على الإطلاق في حروب سابقة، وأهمها الطائرات المسيرة القادرة على إصابة الهدف بدقة والطيران في الأجواء لساعات طويلة.

كان لتكنولوجيا الطائرات المسيرة الحديثة تأثيرها الفعال في إحداث الفارق في الميدان، إذ استطاعت القوات المسلحة، باستخدامها بكثافة وبراعة، إحداث الفارق وفي وقت وجيز في معظم ميادين القتال. وكان لها دورها الأبرز في معركة الإذاعة السودانية في مطلع شهر مارس الحالي، والتي كسبها الجيش مؤخرًا. ولولا تدخل تلك الطائرات المسيرة في المعارك، لكانت الحرب الجارية في أرجاء ولاية الخرطوم أكثر تعقيدًا، ولاستغرق حسمها وقتًا أطول بكثير مما يجري الآن.

المتغيرات الخارجية كثيرة: أهمها أنه لأول مرة يقف المجتمع الدولي والدول العربية والأفريقية مجتمعين موقفًا سلبيًا من حرب شنتها قوات تمرّدت على الدولة السودانية. ففي كل التجارب السابقة، كانت مواقف الدول تختلف بين داعمين للتمرد ومعادين له، وداعمين للدولة السودانية وسلطتها الشرعية.

في هذه الحرب، دعمت أغلب الدول الأفريقية التمرد، بل ودعمته بشتى السبل، من تمرير الأسلحة، إلى فتح المعسكرات للتدريب، إلى الدعم المالي المباشر.

فيما كانت مواقف الدول العربية سلبية للغاية تجاه ما يجري في السودان، فبعض الدول تولت الدعم المالي والعسكري وتمويل الحرب بالكامل، وأخرى لاذت بالصمت، وثالثة تبنت دور الوسيط، في حين كان موقف المجتمع الدولي منحازًا منذ بداية الحرب وداعمًا للتمرد.

بدأت تحركات المجتمع الدولي مبكرًا من الشهر الثاني للحرب عبر تأسيس منبر جدة، وصولًا إلى ما قبل شهرين فيما عُرف بلقاء المنامة، والذي أنكر السودان كل ما ترتب عليه من نتائج. وتجلى موقف المجتمع الدولي أيضًا في الدعوات لوقف الحرب، وهي في أيامها الأولى. تم استخدام مجلس الأمن والمنظمات الإقليمية لفرض تسوية تعيد تموضع قوات الدعم السريع في الحياة السياسية والعسكرية السودانية مجددًا.

هذه الحرب، بكل ما شهدته من متغيرات كثيفة وما ترتب عليها من آثار وخيمة، ستقود إلى تحولات على كافة المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن سودان ما بعد الحرب سيشهد تغييرات جذرية في بنية السلطة الحاكمة وطرائق إدارتها للمرحلة الانتقالية. كما سيشهد اصطفافات جديدة بين الأحزاب والتحالفات السياسية، وسيدفع بلاعبين جدد إلى الساحة السياسية، متمثلين في منظمات المجتمع المدني، والأحزاب الشبابية الجديدة، إضافة إلى مكونات المجتمع الأهلي الصاعدة الآن.

كما سنشهد تغيرات في بنية الاقتصاد وترتيبًا جديدًا للمؤسسات الاقتصادية من حيث توزيعها الجغرافي، وتنوع نشاطاتها، وطرائق تمويلها. وستشهد العلاقات الخارجية تحولًا وتصنيفات جديدة على ضوء المواقف المتباينة من الحرب على كافة المستويات. كما أن الاصطفاف الإثني والجهوي الذي شهدته هذه الحرب، سيستغرق وقتًا طويلاً حتى يتعافى السودانيون من جروحه العميقة التي خلفتها تداعيات الحرب.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة